سورة المدثر - تفسير تفسير الثعالبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


قوله عز وجل: {يا أيها المدثر}.
(ق) عن يحيى بن كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: {يا أيها المدثر} قلت يقولون: {اقرأ باسم ربك} قال أبو سلمة سألت جابراً عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فرأيت شيئاً فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني وصبوا علي ماء بارداً فنزلت {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} وذلك قبل أن تفرض الصلاة» وفي رواية: «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي- وذكر نحوه- فإذا هو قاعد على عرش في الهواء- يعني جبريل- فأخذتني رجفة شديدة».
(ق) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً فقلت زملوني زملوني فدثروني» فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر} إلى: {والرجز فاهجر} وفي رواية: «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع.
فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضاً في بدء الوحي، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه: «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ: {ما لم يعلم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده» الحديث.
قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، كما صرح به في حديث عائشة، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه أيضاً قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} ويدل عليه أيضاً قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر}» وأيضاً قوله «ثم حمي الوحي بعد وتتابع» فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين، والله أعلم قوله «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي، أي عن احتباسه وعدم تتابعه، وتواليه في النزول قوله «فجئثت منه» روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم، ومعناه فرعبت منه وفزعت. وقوله «وحمي الوحي بعد وتتابع» أي كثر نزوله، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم.
وأما التّفسير فقوله عز وجل: يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سماه مدثراً لقوله صلى الله عليه وسلم دثروني، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى، فجعل النّبوة كالدثار واللباس، مجازاً {قم فأنذر} أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته {وربك فكبر} أي عظم ربك عما يقوله عبد ة الأوثان {وثيابك فطهر} فيه أربعة أوجه: أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز.
أما الوجه الأول: فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر صلى الله عليه وسلم بصون ثيابه من النجاسات، وغيرها خلافاً للمشركين.
الوجه الثاني: معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب.
الوجه الثالث: معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة:
وشككت بالرمح الأصم ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرم
يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيره وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه.


{ولا تمنن تستكثر} يعني لا تعط مالك مصانعة لتعطي أكثر منه هذا قول أكثر المفسرين وهذا النهي مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما نهى عن ذلك تنزيهاً لمنصب النبوة لأن من أعطى شيئاً لغيره يطلب منه الزيادة عليه لا بد وأن يتواضع لذلك الذي أعطاه، ومنصب النّبوة بحل عن ذلك وهذا غير موجود في حق الأمة، فيجوز لغيره من الأمة ذلك كما قيل هما رباءان حلال وحرام فالحلال الهدية يهديها الرجل لغيره ليعطيه أكثر منها وأما الحرام فالربا المحرم بنص الشرع، وقيل معناه لا تعط شيئاً لمجازاة الدنيا أعط الله وأراد به وجه الله وقيل معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، ولا يكثرن عملك في عينك فإنه مما أنعم الله به عليك وأعطاك. وقيل معناه لا تمنن على أصحابك بما تعلمهم من أمر الدين وتبلغهم من أمر الوحي كالمستكثر بذلك عليهم، وقيل لا تمنن عليهم بنبوتك فتأخذ منهم على ذلك أجراً تستكثر به، وقيل معناه لا تمنن لا تضعف عن الخير تستكثر منه، وقيل معناه لا تمنن على النّاس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثاراً منك لتلك العطية، فإن المن يحبط العمل {ولربك فاصبر} أي على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله تعالى؛ وقيل معناه فاصبر لله على ما أوذيت فيه، وقيل معناه إنك حملت أمراً عظيماً فيه محاربة العرب والعجم، فاصبر على ذلك لله عز وجل، وقيل معناه فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله {فإذا نقر في الناقور} أي نفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهي النّفخة الأولى، وقيل الثانية وهو الأصح {فذلك يومئذ} يعني يوم النفخة وهو يوم القيامة {يوم عسير} أي شديد {على الكافرين} يعني يعسر عليهم في ذلك اليوم الأمر، فيعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم {غير يسير} أي غير هين.
فإن قلت ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه.
قلت: فائدة التكرار التّأكيد كقوله: أنا محب لك غير مبغض، وقيل لما كان على الكافرين غير يسير دل على أنه يهون على المؤمنين بخلاف الكفار فإنه عليهم عسير لا يسر فيه ليزداد غيظ الكافرين وبشارة المؤمنين قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} أي خلقته في بطن أمه وحيداً فريداً لا مال له ولا ولد، وقيل معناه خلقته وحدي لم يشاركني في خلقه أحد، والمعنى ذرني وإيّاه، فأنا أكفيكه نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يسمى الوحيد في قومه. {وجعلت له مالاً ممدوداً} أي كثير يمد بعضه بعضاً دائماً غير منقطع، وقيل ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه، فقيل كان ألف دينار وقيل أربعة آلاف درهم، وقيل ألف ألف وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة وعنه كان له بين مكة والطّائف إبل وخيل ونعم، وكان له غنم كثيرة وعبيد وجوار: وقيل كان له بستان بالطّائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً، وقيل كان له غلة شهر بشهر، {وبنين شهوداً} أي حضوراً بمكة لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياء غير محتاجين إلى الغيبة لطلب الكسب، وقيل معنى شهوداً أي رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع، قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة نفر خالد وهشام وعمارة {ومهدت له تمهيداً} أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطاً مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان الوليد من أكابر قريش وكان يدعى ريحانة قريش.


{ثم يطمع} أي يرجو {أن أزيد} أي أزيده مالاً وولداً وتمهيداً {كلا} أي لا أفعل ولا أزيده قالوا فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله وولده حتى هلك {إنه كان لآياتنا عنيداً} أي معانداً والمعنى أنه كان معانداً في جميع دلائل التوحيد والقدرة والبعث والنبوة منكراً للكل، وقيل كان كفره كفر عناد وهو أنه كان يعرف هذا بقلبه وينكره بلسانه وهو أقبح الكفر وأفحشه {سأرهقه صعوداً} يعني سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفاً ثم يهوي فيها سبعين خريفاً فهو كذلك أبداً» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سأرهقه صعوداً. قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت وقال الكلبي: الصعود صخرة ملساء في النّار يكلف الكافر أن يصعدها لا يترك يتنفس في صعوده يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد فيصعدها في أربعين عاماً، فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه، ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبداً قوله عز وجل: {إنه فكر وقدر} أي فكر في الأمر الذي يريده ونظر فيه وتدبره ورتب في قلبه كلاماً، وهيأه لذلك لأمر وهو المراد بقوله: {وقدر} أي وقدر ذلك الكلام في قلبه وذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} إلى قوله: {المصير} قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلي ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزيناً فقال له الوليد ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ فقال وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم.

1 | 2 | 3